روبرت أوبنهايمر: العالم الذي صنع التاريخ
جي. روبرت أوبنهايمر كان عالم فيزياء نظرية أمريكيًا وأستاذًا للفيزياء في جامعة كاليفورنيا، بيركلي. اشتهر بكونه المدير العلمي لمختبر لوس ألاموس ومشروع مانهاتن – المشروع الذي جرى خلال الحرب العالمية الثانية لتطوير أول أسلحة نووية في العالم، مما أكسبه لقب "أب القنبلة الذرية".
لم يكن أوبنهايمر مجرد عالم مبدع؛ بل كان أيضًا ناقدًا صريحًا لاستخدام الأسلحة النووية وداعية لنزع السلاح النووي. وبسبب معارضته واختلافاته السياسية اليسارية، تم سحب تصريحه الأمني في خمسينيات القرن الماضي. ورغم ذلك، ظل شخصية مرموقة في المجتمع العلمي وحاز على العديد من الجوائز لقاء إسهاماته العلمية.
حياة روبرت أوبنهايمر المبكرة
وُلد جي. (يوليوس) روبرت أوبنهايمر في 22 أبريل 1904 بمدينة نيويورك. التحق بجامعة هارفارد في عام 1922 بهدف دراسة الكيمياء، لكنه سرعان ما تحول إلى الفيزياء. أثناء دراسته، أظهر تفوقًا في اللاتينية واليونانية، ونشر شعرًا، كما درس الفلسفة الشرقية.
بعد تخرجه، قضى وقتًا في جامعة كامبريدج لإجراء أبحاث في مختبر كافنديش، مما أتاح له فرصة التعاون مع العلماء البريطانيين وتطوير أبحاث الذرة. ثم تابع دراسته في جامعة غوتينغن بألمانيا عام 1926، حيث حصل على درجة الدكتوراه في سن الثانية والعشرين. خلال تلك الفترة، نشر أوبنهايمر العديد من المساهمات المهمة في النظرية الكمومية، من أبرزها "تقريب بورن-أوبنهايمر"، الذي فصل حركة النواة عن حركة الإلكترونات في معالجة الجزيئات رياضيًا.
في عام 1927، عاد إلى جامعة هارفارد كزميل في المجلس الوطني للأبحاث لدراسة الفيزياء الرياضية، ثم انتقل إلى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في العام التالي. خلال هذه الفترة، قبل وظيفة أستاذ مساعد في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، واستمر بالتنقل بين المؤسستين لمدة 13 عامًا، حيث أصبح شخصية محورية في الفيزياء النظرية الأمريكية.
أبحاثه ومساهماته العلمية
اشتهر أوبنهايمر بذكائه الفذ، ويعتبر من المؤسسين الرئيسيين للمدرسة الأمريكية للفيزياء النظرية. تنوعت أبحاثه لتشمل مجالات واسعة مثل الفيزياء الفلكية، الفيزياء النووية، الطيفية، ونظرية الحقول الكمومية. كما ساهم في تطوير نظرية "الانهيارات الكونية" ووصف "النفق الكمي". وكان أول من اقترح وجود الثقوب السوداء من خلال أوراق علمية كتبها في ثلاثينيات القرن الماضي.
مشروع مانهاتن
بعد غزو بولندا من قبل ألمانيا النازية عام 1939، حذر ألبرت أينشتاين وعلماء بارزون آخرون الحكومة الأمريكية من خطر تطوير النازيين للقنبلة النووية. استجاب الرئيس فرانكلين روزفلت بتأسيس مكتب البحث العلمي والتطوير للإشراف على المشروع، وأصبح أوبنهايمر شخصية رئيسية فيه.
عُين أوبنهايمر مديرًا علميًا لمشروع مانهاتن عام 1942، وبدأ العمل على فصل اليورانيوم-235 عن اليورانيوم الطبيعي وتحديد الكتلة الحرجة اللازمة لصنع القنبلة. في ظل ظروف صعبة ومعقدة، أدار أوبنهايمر مختبر لوس ألاموس، حيث عمل على تجميع أفضل العلماء والمهندسين لحل المشكلات النظرية والميكانيكية المتعلقة بتطوير القنبلة الذرية.
تجربة "ترينيتي"
في 16 يوليو 1945، تم إجراء أول تفجير نووي ناجح في قاعدة ألاموغوردو الجوية بولاية نيو مكسيكو، وأطلق أوبنهايمر على التجربة اسم "ترينيتي". كانت قوة الانفجار تعادل 20,000 طن من مادة "تي إن تي"، وبلغت درجة حرارة كرة النار الناتجة ملايين الدرجات.
هيروشيما وناغازاكي
بعد أقل من شهر على نجاح تجربة ترينيتي، أسقطت الولايات المتحدة أول قنبلة ذرية على مدينة هيروشيما اليابانية في 6 أغسطس 1945، مما أسفر عن مقتل حوالي 80,000 شخص فورًا، مع وفاة عشرات الآلاف لاحقًا نتيجة للإشعاع.
بعد ثلاثة أيام فقط، في 9 أغسطس 1945، أسقطت قنبلة ثانية على مدينة ناغازاكي، مما أسفر عن مقتل 40,000 شخص آخرين على الفور. يُعتقد أن هذه الهجمات لعبت دورًا حاسمًا في إنهاء الحرب العالمية الثانية بعد استسلام اليابان.
معارضة أوبنهايمر للأسلحة النووية
بعد انتهاء الحرب، تم تعيين أوبنهايمر رئيسًا للجنة الاستشارية العامة للجنة الطاقة الذرية في عام 1947، وظل في هذا المنصب حتى عام 1952. خلال تلك الفترة، دعا إلى السيطرة الدولية على الطاقة النووية لمنع انتشار الأسلحة النووية وسباق التسلح مع الاتحاد السوفيتي.
في أكتوبر 1949، عارض أوبنهايمر واللجنة تطوير القنبلة الهيدروجينية، مما أدى إلى خلافات سياسية في الأوساط الحكومية.
محاكمته وسحب تصريحه الأمني
في ظل أجواء المكارثية في خمسينيات القرن الماضي، واجه أوبنهايمر اتهامات بالشيوعية وتأخير الكشف عن عملاء سوفييت. في عام 1954، عقدت جلسة استماع أدت إلى سحب تصريحه الأمني، مما أنهى عمله في الحكومة الأمريكية. أثارت هذه المحاكمة صدمة في الأوساط العلمية، حيث رأى الكثيرون فيها مثالًا على استهداف العلماء بسبب آرائهم السياسية.
إرث أوبنهايمر
رغم المحنة التي تعرض لها، واصل أوبنهايمر أبحاثه الأكاديمية كمدير لمعهد الدراسات المتقدمة في برينستون حتى وفاته بسبب سرطان الحنجرة في 18 فبراير 1967.
إعادة الاعتبار
في 16 ديسمبر 2022، أعلنت وزيرة الطاقة الأمريكية جينيفر غرانهولم تبرئة أوبنهايمر من الاتهامات التي أدت إلى سحب تصريحه الأمني، ووصفت التحقيق الذي أُجري في حقه بأنه كان معيبًا وغير عادل.
يبقى جي. روبرت أوبنهايمر رمزًا للعالم الذي صنع التاريخ، لكنه واجه التحديات الأخلاقية والسياسية المرتبطة بإنجازاته العلمية.