مصير سفينتي Erebus وTerror في رحلة الممر الشمالي الغربي
في التاسع عشر من مايو عام 1845، انطلقت السفينتان الملكيتان HMS Erebus وHMS Terror من نهر التايمز في إنجلترا، محملتين بـ128 رجلًا تحت قيادة البحار الشهير السير جون فرانكلين. كانت المهمة الموكلة إليهم طموحة للغاية، بل ومميتة: العثور على الممر الشمالي الغربي، وهو ممر بحري يربط بين المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ عبر التضاريس الجليدية الخطيرة للقارة القطبية الشمالية الكندية.
كانت هذه الرحلة حلمًا لمستكشفي أوروبا لعدة قرون. فمنذ القرن الخامس عشر، كانت القوى الأوروبية العظمى تسعى لفك شيفرة هذا الممر الأسطوري الذي قد يفتح الباب أمام تجارة أسرع مع آسيا. ومع ذلك، لم تكن هذه المحاولات خالية من المخاطر؛ إذ خسر العديد من البحارة حياتهم، وغرقت سفن عديدة في مواجهة الطبيعة القاسية.
تجهيز السفينتين Erebus وTerror
كانت كلتا السفينتين، Erebus وTerror، مجهزتين بأحدث الابتكارات التكنولوجية لذلك الوقت. بُنيت السفن لتحمل أقسى الظروف الجليدية، وزُودت بمحركات بخارية معززة وهيكل مُدعم بالحديد. كما احتوت السفن على مخزون ضخم من المؤن يكفي لمدة ثلاث سنوات، بالإضافة إلى مكتبة تحتوي على مئات الكتب، وآلات موسيقية، وحتى أدوات علمية متقدمة.
هذا الاهتمام بالتفاصيل لم يكن عبثًا؛ فقد أثبتت السفينتان جدارتهما في بعثات سابقة إلى القطب الجنوبي بقيادة القبطان جيمس كلارك روس. لذلك، اعتُبرت بعثة فرانكلين المحاولة الأكثر تجهيزًا واحترافية لتحقيق الحلم القديم.
آخر ظهور معروف للسفن
بعد شهرين من مغادرة التايمز، شوهدت السفينتان بالقرب من خليج بافين، وهو بوابة الدخول إلى الممر الشمالي الغربي. وبعد هذه المشاهدة، اختفت السفن تمامًا عن الأنظار. لم يُرَ أي من أفراد الطاقم مرة أخرى من قبل الأوروبيين، ليبدأ بذلك لغزًا استمر لأكثر من 175 عامًا.
أولى الإشارات: الأدلة المتناثرة
مع مرور السنوات، أُرسلت بعثات إنقاذ عديدة بحثًا عن فرانكلين وطاقمه. وعُثر على أدلة متناثرة تشير إلى مصير الرحلة المأساوي:
القبور الثلاثة: عُثر على ثلاثة قبور تحتوي على جثث محفوظة بشكل مدهش بسبب التجمد، ما سمح للعلماء لاحقًا بتحديد إصابتهم بـالإسقربوط ونقص التغذية.
المذكرة المؤرخة في 1848: وجدت بعثة إنقاذ ملاحظة مخبأة في أسطوانة معدنية، تُشير إلى وفاة فرانكلين و23 من رجاله، وإلى أن السفينتين ظلتا محاصرتين في الجليد لمدة 18 شهرًا قبل أن يقرر الطاقم التخلي عنهما ومحاولة النجاة سيرًا على الأقدام.
المزلجة المهجورة: تضمنت هيكلين عظميين وأغراضًا شخصية، مما أوضح أن الرجال كانوا يحاولون التحرك عبر التضاريس الجليدية حاملين ما استطاعوا من المؤن.
حكايات الإنويت السكان الأصليين
كان للسكان الأصليين، الإنويت، دور محوري في الكشف عن تفاصيل جديدة. روى بعضهم قصصًا عن "رجال بيض" شوهدوا وهم يعانون من الجوع والعجز في تلك المنطقة. كما تحدثوا عن سفن غارقة أو محاصرة في الجليد.
لكن للأسف، تم تجاهل شهادات الإنويت في البداية بسبب تحيزات البريطانيين. كما أثارت بعض التفاصيل صدمة المسؤولين البريطانيين، مثل الادعاءات بأن بعض أفراد الطاقم لجأوا إلى أكل لحوم البشر من أجل البقاء على قيد الحياة.
الاكتشاف الكبير: العثور على الحطام
ظل لغز بعثة فرانكلين دون حل لعقود طويلة، حتى سبتمبر 2014، عندما عثرت بعثة بحثية على حطام HMS Erebus في مياه ضحلة بعمق 11 مترًا فقط. بعد ذلك بعامين، اكتُشف حطام HMS Terror بحالة مذهلة في مكان أعمق إلى الشمال الغربي.
لكن هذه الاكتشافات، بدلًا من أن تجيب عن الأسئلة، أثارت المزيد منها.
مواقع غير متوقعة
وُجد حطام Terror على بعد 60 ميلاً جنوب المكان الذي أشارت إليه مذكرة عام 1848، بينما كانت Erebus أبعد جنوبًا بـ30 ميلًا. هذا التباين أثار تساؤلات حول ما إذا كان بعض أفراد الطاقم قد حاولوا العودة إلى السفن بعد التخلي عنها، أم أن الجليد المتحرك هو الذي حملها إلى مواقعها الأخيرة.
حطام بحالة استثنائية
كانت حالة HMS Terror مذهلة. عند استخدام مركبة روبوتية لاستكشاف الحطام في عام 2019، وجد الباحثون كابينات محفوظة بشكل مثالي، مع أدراج مغلقة وأغراض موضوعة بعناية. ربما تحتوي هذه الأدراج على أدلة حاسمة: خريطة، رسالة، أو حتى يوميات توضح تفاصيل اللحظات الأخيرة للطاقم.
أهمية التاريخ الشفوي للإنويت
رغم تجاهل شهادات الإنويت في الماضي، بدأ العلماء في السنوات الأخيرة إعادة تقييم هذه الروايات. أطلق مشروع التاريخ الشفوي لبعثة فرانكلين في عام 2018 بهدف جمع المعلومات من سكان المنطقة المحليين.
تشير إحدى الروايات إلى أن بعض أفراد الطاقم ربما عاشوا لبعض الوقت بعد التخلي عن السفن، بل وربما حاولوا التفاعل مع السكان المحليين للحصول على المساعدة.
الفرضيات حول المصير النهائي
.
تظل النظرية الأكثر قبولًا هي أن الطاقم مات تدريجيًا نتيجة الإسقربوط ونقص الغذاء والبرد القارس. ولكن بالنظر إلى مواقع الحطام والأدلة الأخرى، يبدو أن القصة أكثر تعقيدًا مما كان يُعتقد سابقًا.
تشير لوكهارت، عالمة الآثار البحرية: "يتعين علينا إعادة تقييم تسلسل الأحداث بناءً على مواقع السفن."
الأمل في فك اللغز
رغم مرور ما يقرب من قرنين من الزمان، لا يزال الغموض يحيط بمصير بعثة فرانكلين. ربما تحمل الأدراج المغلقة في HMS Terror وHMS Erebus الإجابة.
سواء كانت هناك خريطة توضح الطريق، أو رسالة تكشف عن اللحظات الأخيرة، فإن هذه السفن قد تكون المفتاح لفك لغز رحلة فرانكلين، تلك الرحلة التي جسدت طموح الإنسان وإصراره، لكنها انتهت بمأساة محفورة في تاريخ الاستكشاف.
استكشاف الحطام: خطوة نحو الحقيقة
في السنوات الأخيرة، واصل علماء الآثار استكشاف الحطام، مستخدمين أحدث التقنيات مثل المركبات الروبوتية والغواصات الصغيرة لاستكشاف التفاصيل الدقيقة. كانت HMS Terror، على وجه الخصوص، مصدرًا للإبهار بسبب حالتها شبه الكاملة.
الاكتشافات داخل الحطام
الأدوات اليومية: عُثر على أدوات طهي وأوانٍ موضوعة بعناية على الرفوف، مما يشير إلى أن الحياة اليومية على متن السفينة استمرت لفترة أطول مما كان يُعتقد.
الوثائق المغلقة: الأدراج والرفوف المغلقة قد تحتوي على مستندات هامة، مثل اليوميات أو السجلات البحرية، التي قد توفر نظرة مباشرة على ما حدث خلال الرحلة.
الكابينات المحفوظة: تضمنت بعض الغرف بقايا أسرة وأثاث مرتب بعناية، مما يعكس حالة من النظام حتى في ظل الظروف الصعبة.
الجوانب الإنسانية للرحلة
بينما تركزت معظم الأبحاث على السفن وحطامها، لا يمكننا تجاهل الجانب الإنساني لهذه القصة. هؤلاء الرجال الذين غادروا بلادهم بأمل كبير كانوا يواجهون الموت البطيء والوحيد في بيئة قاسية وغير رحيمة.
الرسائل غير المكتملة
عُثر على بعض الرسائل التي كتبها أفراد الطاقم، بعضها كان مكتوبًا بطريقة فوضوية أو مشفرة، مما يعكس حالتهم النفسية المدمرة. في ظل الجوع واليأس، يبدو أن بعضهم حاول ترك رسالة أخيرة للعالم، ولكن دون أن يتمكن من إكمالها.
التضحية والجماعة
تشير الشهادات والقصص المستندة إلى الأدلة إلى أن أفراد الطاقم قد حاولوا البقاء معًا، حتى في مواجهة اليأس. تظهر آثار التضحيات المتبادلة، حيث يبدو أن بعضهم قدم طعامه أو جهوده لإنقاذ الآخرين، وهو دليل على الروابط الإنسانية العميقة التي جمعتهم.
البُعد الثقافي والاستعماري
التجاهل البريطاني لروايات الإنويت
لطالما كانت الروايات الشفوية للإنويت تحتوي على تفاصيل دقيقة عن مواقع السفن وعن مصير الطاقم. ومع ذلك، قوبلت هذه الروايات بالتشكيك من قبل السلطات البريطانية في القرن التاسع عشر، مما أضاع عقودًا من البحث العلمي القيم.
التعاون الحديث مع مجتمعات الإنويت
بدأ العلماء اليوم في تصحيح هذا الخطأ التاريخي من خلال إشراك مجتمعات الإنويت في البحث. فقد أدى الجمع بين الروايات الشفوية والبيانات الأثرية إلى تقدم كبير في فهم أحداث البعثة.
استنتاجات أخيرة
تظل رحلة HMS Erebus وHMS Terror رمزًا للإصرار البشري على تجاوز الحدود واستكشاف المجهول. لكنها أيضًا تحذير واضح من العواقب التي قد تواجهها الإنسانية عندما تُقلل من قوة الطبيعة وعظمتها.
رغم مرور ما يقارب 200 عام، لا يزال هناك أمل في أن تكشف الاكتشافات المستقبلية، سواء من حطام السفن أو عبر العمل مع المجتمعات المحلية، عن الألغاز التي تحيط بمصير هؤلاء البحارة الشجعان.
ربما لن نعرف القصة كاملة أبدًا، ولكن ما نعرفه يكفي لتذكيرنا بشجاعة وإصرار من خاطروا بكل شيء في سبيل الاستكشاف. في النهاية، قصة بعثة فرانكلين ليست فقط عن المأساة، بل عن الإنسانية في مواجهة المجهول.
المصادر : من هنا