مع دخولنا العقد الجديد، تصدر الخوف على صحتنا المشهد العالمي. إذ حصدت طفرة متطورة من فيروس كورونا آلاف الأرواح منذ أول إصابة مسجلة في مدينة ووهان بالصين. لكن هذه ليست المرة الأولى التي يواجه فيها البشر وباءً عالمياً. إن ظهور وانتشار كوفيد-19 ليس إلا حلقة في سلسلة طويلة من الأوبئة التي امتدت منذ عهد الإمبراطورية البيزنطية حتى العصر الحديث.
إليكم ستة أوبئة وأمراض كادت أن تقضي على البشرية:
1. طاعون جستنيان
قبل وقت طويل من ظهور الطاعون الأسود، شهد العالم أول وباء موثق في التاريخ: طاعون جستنيان. سُمي على اسم الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول، الذي نجا بالكاد من المرض. ظهر هذا الوباء في عام 541 ميلادي بسبب بكتيريا "يرسينيا بيستيس"، وقضى على ملايين البشر.
يُعتقد أن الطاعون وصل إلى القسطنطينية عن طريق الجرذان التي كانت على متن سفن تنقل الحبوب من شمال إفريقيا. حوّل الطاعون المدينة إلى مركز للموت والدمار؛ حيث تراكمت الجثث دون دفن، مما أدى إلى انهيار اقتصادي إضافي للإمبراطورية التي كانت مرهقة بالفعل بالحروب.
كتب المؤرخ بروكوبيوس عن تلك الفترة قائلاً: "كانت البشرية جمعاء على حافة الموت" (وهو ما يعتبر مبالغة)، وأشار إلى الإمبراطور جستنيان بأنه "شيطان في جسد إنسان يريد إبادة شعبه"، وهو وصف غير موثوق.
2. الموت الأسود
في عام 1347، اجتاحت أوروبا واحدة من أسوأ الكوارث الصحية في تاريخها: الموت الأسود. لا يزال المؤرخون يبحثون عن مصدر الطاعون، ومعظمهم يتفق على أن الصين كانت مركز انتشاره.
ومن المثير للاهتمام أن بعض المؤرخين يقترحون أن الطاعون وصل إلى أوروبا عبر حرب بيولوجية مبكرة. أثناء حصار المغول لمدينة كافا بشبه جزيرة القرم، قاموا بإلقاء جثث مصابة بالطاعون داخل المدينة لنشر العدوى بين سكانها. هرب الناجون من المدينة إلى مدن أوروبية أخرى، حاملين معهم المرض، مما أدى إلى انتشاره على نطاق واسع.
وفقًا للمؤرخين، تسبب الطاعون في مقتل أكثر من 60% من سكان أوروبا. وصف مؤرخ فرنسي مشاهد الدفن الجماعي قائلاً: "كانت الجثث تُدفن على شكل طبقات، تشبه اللازانيا المكونة من المعكرونة والجبن."
3. الطاعون العظيم في لندن
في عام 1665، اجتاح الطاعون العظيم مدينة لندن وقتل ربع سكانها. لم يكن وباءً عالمياً، بل اقتصر على المدينة، لكنه كان كارثياً بالنسبة للسكان الذين كانوا يعيشون في ظروف صحية سيئة.
تأثر الفقراء بشكل خاص، حيث ماتوا في الشوارع المليئة بالقذارة. تم تمييز منازل المصابين بصليب أحمر كبير، بينما هرب الأثرياء، ومن بينهم الملك تشارلز الثاني، إلى الريف.
وصف الكاتب صموئيل بيبس الوضع قائلاً: "لم يكن في الشوارع سوى الفقراء البائسين. أصوات أنين المرضى كانت تُسمع ليلاً ونهاراً، يرافقها قرع الأجراس لنقل الموتى إلى قبورهم."
لحسن الحظ، انتهى الوباء بعد فترة قصيرة، ويُعتقد أن الحريق الكبير الذي دمر لندن في عام 1666 ساهم في القضاء عليه.
4. جائحة الكوليرا الثالثة
تُعد الكوليرا مرضاً قاتلاً يسبب الجفاف والموت، وحدثت جائحتها الثالثة في منتصف القرن التاسع عشر، مما أسفر عن وفاة الملايين.
نشأت الجائحة في الهند وانتشرت إلى أنحاء العالم، وكانت نقطة تحول في فهم الأمراض. في ذلك الوقت، كانت "نظرية الميازما" تشير إلى أن الأمراض مثل الكوليرا تُسببها الروائح الكريهة.
غير أن الطبيب جون سنو أثبت العكس. أجرى تحقيقات دقيقة في تفشي الكوليرا في حي سوهو بلندن، واكتشف أن جميع الحالات مرتبطة بمضخة مياه ملوثة. أقنع السلطات بإزالة مقبض المضخة، مما أدى إلى توقف الوباء.
حتى اليوم، يُعتبر اكتشاف جون سنو لحظة حاسمة في تاريخ الصحة العامة.
5. الإنفلونزا الإسبانية
عندما ظهرت الإنفلونزا الإسبانية في عام 1918، ظن الناس أنها مجرد نزلة برد. ومع انشغال العالم بالحرب العالمية الأولى، قللت السلطات من خطورتها.
رغم اسمها، لم تبدأ الجائحة في إسبانيا، لكنها ارتبطت بها لأن الصحافة الإسبانية نشرت تقارير مفصلة عن تفشي المرض، على عكس الدول الأخرى التي فرضت رقابة إعلامية.
ساعدت تحركات القوات أثناء الحرب على تفشي الفيروس H1N1، مما أسفر عن وفاة أكثر من 100 مليون شخص. أعادت الجائحات الحديثة، مثل إنفلونزا الخنازير، الاهتمام بدراسة هذا الحدث لتجنب كوارث مستقبلية.
6. فيروس نقص المناعة المكتسبة/الإيدز
في عام 1981، لاحظ الأطباء الأمريكيون زيادة في حالات ذات الرئة وسرطان الجلد بين المثليين. تبين لاحقاً أن فيروساً جديداً يهاجم جهاز المناعة، ما يجعل المرضى عرضة لأمراض نادرة: فيروس نقص المناعة المكتسبة (HIV).
يُعتقد أن الفيروس نشأ في إفريقيا وانتقل إلى البشر في القرن العشرين. أظهرت دراسات الحمض النووي أنه أصاب الإنسان قبل اكتشافه بوقت طويل.
في ذروة تفشيه خلال الثمانينيات والتسعينيات، أودى الإيدز بحياة الملايين، مع وصمة اجتماعية أثقلت كاهل المصابين.
لحسن الحظ، أدت الأدوية الحديثة إلى تحسين حياة المصابين، مما حول المرض من حكم بالإعدام إلى حالة يمكن التعايش معها.
الدروس المستفادة
تُظهر هذه الأوبئة قوة الأمراض في تشكيل مسار التاريخ، وتذكرنا بأهمية العلم والوعي في مواجهة الأزمات الصحية المستقبلية.