سقوط كوزموس 954: مأساة نووية في كندا وأصداء الحرب الباردة
في عام 1978، انتهى القمر الصناعي السوفيتي الاستطلاعي "كوزموس 954" بنهاية درامية. إذ عاد إلى الغلاف الجوي للأرض بطريقة غير خاضعة للسيطرة، واصطدم بالأرض بسرعة هائلة في شمال غرب كندا.
في أفضل الأحوال، قد يكون هذا الحادث أقل من مثالي. ولكن في ذروة الحرب الباردة، لم يكن "كوزموس" مجرد قمر صناعي عادي. كان يعمل بالطاقة النووية ويحمل خلية طاقة يورانيوم ثقيلة. وعندما تحطم، نشر هذا المادة النووية عبر كندا، مما أدى إلى تداعيات إشعاعية وأثار تساؤلات حول سلامة الأقمار الصناعية النووية.
والأمر الأكثر إثارة للصدمة هو أن "كوزموس" لم يكن القمر الصناعي الأول أو الأخير الذي يعمل بالطاقة النووية ويتحطم. ولكنه كان الأكثر شهرة، وهذه هي قصته.
السقوط من السماء
كان "كوزموس 954" قمراً صناعياً سوفيتياً لرصد المحيطات بالرادار، أو ما يُعرف بـ RORSAT. كان برنامج RORSAT عبارة عن سلسلة من الأقمار الصناعية المصممة للمراقبة البحرية خلال الحرب الباردة. زُودت هذه الأقمار الصناعية بأنظمة رادار قوية قادرة على مراقبة تحركات السفن والأنشطة البحرية عبر مساحات شاسعة من محيطات الأرض.
احتوى "كوزموس 954" على مفاعل نووي صغير (BES-5) كمصدر للطاقة، والذي وفر قدرة تشغيل طويلة المدى. كانت هذه التكنولوجيا مثالية للمهام التي تتطلب مراقبة مستمرة وجمع البيانات. ومع ذلك، كانت لهذه الأقمار الصناعية نقطة ضعف رئيسية: ميلها للتحطم.
شاهد إيضاً: لغز اختفاء الفيزيائي العبقري إيتوري ماجورانا
الإطلاق وفقدان السيطرة
تم إطلاق "كوزموس 954" في 18 سبتمبر 1977 من قاعدة بايكونور الفضائية، بواسطة صاروخ "تسيكلون-2". وكانت عملية الإطلاق ناجحة، ودخل القمر الصناعي في مدار حول الأرض بدورة كاملة كل 89.5 دقيقة.
لكن بحلول ديسمبر من نفس العام، أدرك السوفييت أن هناك مشكلة. فقد تغير مدار القمر الصناعي، وأصبح مساره غير مستقر.
بحلول منتصف ديسمبر، لاحظت قيادة الدفاع الجوي الأمريكية الشمالية (NORAD) المشكلة أيضاً، وقامت بتسجيل القمر الصناعي تحت الرمز "10361". ولاحظت أن مداره تغير بمقدار يصل إلى 80 كيلومتراً (50 ميلاً).
عُقدت اجتماعات سرية بين المسؤولين السوفييت والأمريكيين لتجنب وقوع كارثة. اعترف السوفييت بأنهم فقدوا السيطرة على "كوزموس 954"، والأسوأ من ذلك، أن النظام الذي صُمم لإطلاق نواة المفاعل إلى مدار آمن لم يعمل.
التحطم والتداعيات
في 24 يناير 1978، عند الساعة 11:53 بتوقيت غرينتش، دخل "كوزموس 954" الغلاف الجوي للأرض بشكل غير خاضع للسيطرة. كان القمر الصناعي يتجه نحو غرب كندا. في البداية، حاول السوفييت الادعاء بأن القمر الصناعي دُمر أثناء دخوله الغلاف الجوي ولم يشكل أي خطر.
لكن البحث أثبت عكس ذلك. تناثر الحطام على امتداد 960 كيلومتراً (600 ميل) من بحيرة "جريت سليف" إلى بحيرة "بيكر".
عمليات الاسترداد
أدى تناثر الحطام المحتمل أن يكون مشعاً عبر البرية الكندية إلى تشكيل عملية مشتركة بين كندا والولايات المتحدة عُرفت باسم "ضوء الصباح".
امتدت فرق البحث المشتركة على مساحة بلغت 124,000 كيلومتر مربع (48,000 ميل مربع) سيراً على الأقدام ومن خلال الطائرات، من 24 يناير إلى 20 أبريل 1978. وتمت عملية بحث ثانية من 21 أبريل إلى 15 أكتوبر من نفس العام.
في النهاية، تم استرداد 12 قطعة كبيرة من القمر الصناعي، وُجد أن 10 منها مشعة.
التداعيات البيئية والصحية
على الرغم من أن القطع المستردة مثّلت أقل من 1% من وقود القمر الصناعي، إلا أن بعضها كان خطيراً للغاية. على سبيل المثال، كان أحد الأجزاء يحتوي على إشعاع بقوة 500 راد/ساعة، وهو مستوى كافٍ لقتل أي شخص يتعرض له لعدة ساعات.بالإضافة إلى عمليات التنظيف، أُجريت أنشطة مراقبة لتقييم مدى التلوث الإشعاعي في التربة والمياه والهواء، لتحديد التأثيرات على البيئة والسكان المحليين.
وفقاً لاتفاقية المسؤولية الفضائية لعام 1972، كان على الاتحاد السوفيتي دفع تعويضات لكندا عن الأضرار. طالبت كندا بمبلغ 6,041,174.70 دولار كندي، مع إضافة مبلغ إضافي للمصاريف المستقبلية. دفع الاتحاد السوفيتي نصف المبلغ تقريباً.
الدروس المستفادة
أثرت الحادثة سلباً على سمعة برنامج الفضاء السوفيتي. إذ سبقتها حادثة مشابهة عام 1973 عندما تحطم قمر صناعي آخر من نوع RORSAT في المحيط الهادئ بالقرب من اليابان. وبعد خمس سنوات من "كوزموس 954"، تحطم قمر صناعي آخر هو "كوزموس 1402" وسقطت نواته في جنوب المحيط الأطلسي.
في النهاية، أُجبر السوفييت على تطوير نظام احتياطي لإطلاق النواة في حالات الطوارئ. وعندما تحطم القمر الصناعي "كوزموس 1900" في عام 1988، نجح هذا النظام في إبعاد النواة إلى الفضاء.
الخاتمة
أظهرت حادثة "كوزموس 954" أهمية التعاون الدولي لمواجهة تحديات استكشاف الفضاء، وضرورة تطبيق إجراءات صارمة لضمان سلامة الأقمار الصناعية التي تعمل بالطاقة النووية. مع استمرارنا في استكشاف الفضاء، تذكّرنا هذه الحادثة بضرورة اتباع ممارسات مستدامة ومسؤولة.