مكتب التنبؤات
كان "مكتب التنبؤات" مشروعًا نفذه الطبيب النفسي جون باركر وصحفي من صحيفة "إيفينينغ ستار" البريطانية بين عامي 1966 و1968.
كانت المبادرة تقوم على استقبال التنبؤات من قراء الصحيفة ودراستها في محاولة لإيجاد منهجية لمنع الكوارث المستقبلية قبل حدوثها، من خلال تحليل التنبؤ الجماعي الذي تم جمعه.
اكتشف مبتكر المشروع، جون باركر، أن التعامل مع التنبؤات المسبقة يعد مخاطرة خطيرة جدًا.
كارثة أبرفان، 1966
جاءت فكرة إنشاء مكتب للتنبؤات بعد كارثة أبرفان في 21 أكتوبر 1966.
أبرفان هي بلدة تعدين صغيرة في جنوب ويلز، تقع على بعد 26 كيلومترًا شمال مدينة كارديف، وهي مبنية على أرض وادي تاف.
في أعلى تلة فوق البلدة، تم وضع سبع أكوام من المخلفات الناتجة عن استخراج الفحم من منجم، حيث تراكمت النفايات الناتجة عن الحفر.
كارثة أبرفان 1966. الجبال السوداء التي تحيط بالقرية ليست جبالًا فعلية، بل هي أكوام كبيرة من المخلفات الناتجة عن منجم الفحم. كانت الكومة على حافة التلة، فوق المنازل، تنهار بعد ثلاثة أسابيع من الأمطار الغزيرة، مما دفن جزءًا من أبرفان.
كانت أكوام المخلفات تتخذ شكل تلال مخروطية ضخمة، بلغ ارتفاعها أكثر من 30 مترًا (100 قدم) واحتوت على أكثر من 270,000 متر مكعب من المخلفات. كان اثنان من هذه التلال يقعان على حافة التلة المشرفة على البلدة، فوق مجاري عدة جداول وعيون ماء.
في 21 أكتوبر 1966، بعد ثلاثة أسابيع من الأمطار الغزيرة، انهار الكومة رقم 7 بسبب تراكم المياه فيها، وفي الساعة 9:15 صباحًا، انزاحت نحو أسفل التلة إلى البلدة.
أكثر من 110,000 متر مكعب من الأنقاض، بارتفاع 9 أمتار (30 قدمًا)، اجتاحت البلدة، مدفنة جزءًا من السكان في دقائق معدودة، مما أسفر عن مقتل 144 شخصًا.
كان من بين المباني الأكثر تأثرًا مدرسة "بنتغلاس" الابتدائية، حيث تم دفن 109 أطفال تتراوح أعمارهم بين 7 و10 سنوات و5 مدرسين أحياء.
التنبؤات حول الكارثة
عندما انتشرت الأخبار حول دفن العديد من المنازل والمدارس تحت الأنقاض، تدفق المئات من المتطوعين من جميع أنحاء المملكة المتحدة للمساعدة في جهود الإنقاذ اليائسة. لكن لم يبق سوى القليل من الأشخاص على قيد الحياة.
من بين المتطوعين كان جون باركر (1924-1968)، وهو طبيب نفسي كان يعمل في مستشفى شيلتون للصحة العقلية في شروبشاير، إنجلترا. في أوقات فراغه، كان باركر باحثًا في الظواهر الخارقة وكان عضوًا في جمعية البحث النفسي.
عندما سافر إلى أبرفان، كان باركر يكتب كتابًا عن الأشخاص الذين تنبأوا بوفاتهم الخاصة بدقة.
مكتب التنبؤات
كان المئات من المتطوعين من جميع أنحاء المملكة المتحدة يعملون بجد في محاولة لحفر ضحايا الكارثة أحياء في أبرفان.
عند وصوله إلى البلدة، بدأ باركر في سماع قصص عن أطفال كان لديهم نوع من التنبؤ بالكوارث التي أودت بحياتهم.
قبل يوم من الكارثة، رسم الطفل البالغ من العمر 8 سنوات بول ديفيس صورة لمجموعة من الأشخاص يحفرون على تلة. وفوق المشهد، كتب "النهاية" كعنوان.
في الليلة التي سبقت الكارثة، أخبرت الطفلة إيريل ماي جونز والدتها بأنها حلمت بأنها وصلت إلى المدرسة لتجدها مغطاة تمامًا بشيء أسود فوقها. وأضافت أنها "لم تكن خائفة من الموت". كلا الطفلين، بول ديفيس وإيريل ماي جونز، لقيا حتفهما مدفونين.
بعد سماع هذه القصص، تساءل جون باركر عما إذا كان هناك المزيد من الأشخاص الذين كانوا قد تنبأوا بالكوارث، ليس فقط بين سكان أبرفان ولكن في جميع أنحاء المملكة المتحدة.
طلبت "إيفينينغ ستاندارد" من قرائها إرسال التنبؤات عن أبرفان
في محاولة لاكتشاف المزيد، تواصل باركر مع بيتر فيرلي، محرر العلوم في صحيفة "إيفينينغ ستاندارد". نشرت الصحيفة إعلانًا تطلب فيه من أي قارئ قد يكون قد شهد أي نوع من التنبؤ حول أبرفان، سواء كان حلمًا أو رؤية أو شعورًا بدنيًا، إرسال تجربتهم عبر البريد الإلكتروني.
رد حوالي 80 شخصًا فقط، وكان العديد من التنبؤات غير دقيقة أو غير موثوقة.
مكتب التنبؤات
شهدت البلدة تساقط الأنقاض في مستوى الشارع في أبرفان.
أفادت إحدى القراء، كارولين ميلر، بأنها شهدت في 20 أكتوبر رؤية لاندفاع كومة من الفحم نحو طفل. ثم رأت في رؤية أخرى رجال الإنقاذ وهم يعملون في الحطام.
وبعد أن شعرت بالصدمة، أخبرت كارولين أصدقاءها في الكنيسة عن رؤيتها، وأضافت أنها كانت تشعر بأن الطفل الذي رأته قد نجا. بعد عدة أيام، رأت الطفل نفسه حيًا في تقرير إخباري عن البلدة. كانت رؤيتها دقيقة، حيث كانت التنبؤات صحيحة من ناحيتين.
التنبؤات وما بعد الكارثة
استمرت القصص والرسائل التي تلقتها صحيفة "إيفينينغ ستاندارد" في تدفقها بعد الكارثة، حيث تبادل العديد من الأشخاص تجاربهم الشخصية عن رؤاهم وأحلامهم التي سبقت الحادث. بعض هؤلاء الأشخاص أكدوا أنهم شعروا بشيء غريب قبل وقوع الكارثة، بينما أشار آخرون إلى أنهم كانوا في حالة من القلق المستمر حول بلدة أبرفان.
في ضوء هذه الرسائل، قرر جون باركر أن ينشئ مكتبًا رسميًا للتنبؤات في عام 1967، وكان الهدف هو جمع وتحليل التنبؤات التي تلقتها الصحيفة من أجل دراسة نمط معين قد يساعد في فهم ما إذا كان بالإمكان التنبؤ بالكوارث المستقبلية وتفاديها.
مكتب التنبؤات:
تم تحديد مقر المكتب في لندن، حيث بدأ باركر مع فريق من العلماء، والمحللين النفسيين، وصحفيين بارعين في متابعة وفلترة الرسائل التي وردت. كانت المهمة الأساسية هي التحقق من صحة التنبؤات، تصنيفها، ومحاولة فهم العلاقة بين التنبؤات المزعومة والأحداث الحقيقية.
التنبؤات الغريبة التي تم تلقيها
جاءت بعض التنبؤات بطرق غريبة وملموسة، مثل رؤى من أشخاص في مناطق بعيدة عن أبرفان، وبعض الأشخاص أشاروا إلى أنهم شعروا بأنهم على علم مسبق بكارثة قادمة. بينما تم تسجيل آخرين أحلامًا وصفوا فيها مشاهد مدمرة لتلال تتحرك، وسقوط الصخور أو الانهيارات الأرضية التي تتسبب في دمار هائل.
لكن، كما هو الحال مع أي دراسة للتنبؤات، كانت هناك الكثير من الحالات التي كانت غير دقيقة أو غير قابلة للتفسير. رغم ذلك، واصل باركر وفريقه جمع البيانات والتعمق في محاولة إيجاد أنماط يمكن التنبؤ بها.
التأثير على المجتمع العلمي
رغم أن النتائج الأولية لم تكن حاسمة، بدأ مشروع مكتب التنبؤات في جذب اهتمام العلماء والباحثين في مجال علم النفس والدراسات الماورائية. بدأوا في التساؤل عما إذا كانت الظواهر الخارقة أو التنبؤات قد تكون جزءًا من القدرة البشرية غير المفهومة، أم إذا كانت مجرد مصادفات.
العديد من العلماء الذين شاركوا في هذا المشروع أشاروا إلى أهمية دراسة الظواهر النفسية والسلوك البشري من أجل فهم أفضل لظاهرة التنبؤ. كانت بعض التفسيرات تتعلق بالاستجابة الجماعية لمشاعر القلق والترقب التي تحدث قبل الأحداث الكارثية.
الانتقادات والمخاوف
بالرغم من الاهتمام الذي أثاره المشروع، كان هناك أيضًا الكثير من الانتقادات، حيث شكك البعض في مصداقية التنبؤات وسلامة الأساليب المستخدمة. اعتبر منتقدو المشروع أن التنبؤات كانت نتاجًا للخيال البشري أو مجرد صدفة، وأن محاولة فهم الظواهر الخارقة باستخدام المنهج العلمي قد يكون أمرًا غير منطقي.
كانت هناك أيضًا مخاوف من استغلال مثل هذه التنبؤات في نشر الذعر بين الناس، أو حتى إحداث تأثير سلبي على الأشخاص الذين قد يشعرون بالقلق نتيجة لهذه الرسائل.
نهاية المشروع
بعد عامين من جمع وتحليل التنبؤات، توقف "مكتب التنبؤات" في عام 1968. كان السبب الرئيسي لهذا التوقف هو أن المشروع لم يسفر عن أي نتائج قاطعة بشأن كيفية التنبؤ بالكوارث أو منعها. ومع تزايد الانتقادات والتحديات التي واجهها الفريق، قرر باركر إنهاء المشروع.
على الرغم من ذلك، فقد ترك هذا المشروع أثرًا كبيرًا في مجال دراسة الظواهر النفسية والماورائية. أثار النقاش حول قدرة البشر على التنبؤ بالمستقبل العديد من الأسئلة الفلسفية والعلمية حول حدود الوعي البشري، وطرحت موضوعات جديدة حول العلاقة بين العقل البشري والظروف المستقبلية.
الدرس المستفاد من مكتب التنبؤات
بينما لم يسفر مشروع "مكتب التنبؤات" عن أي تقدم حاسم في مجال التنبؤ بالكوارث، إلا أنه فتح الباب أمام المزيد من الأبحاث حول الظواهر النفسية الماورائية. وساهم في تسليط الضوء على مسألة أهمية النظر في الظواهر النفسية غير المفسرة وتأثيراتها المحتملة على الأحداث المستقبلية.
من خلال هذا المشروع، بدأ العديد من الباحثين في إدراك أن البشر قد يمتلكون قدرة على معالجة المعلومات بشكل غير واعي، ربما من خلال الحواس السادسة أو مجرد مشاعر غريزية، والتي قد تكون تلميحات لأحداث قادمة، حتى لو لم تكن تلك التنبؤات دقيقة أو ملموسة.
الخاتمة
رغم الفشل الواضح لمشروع "مكتب التنبؤات" في التنبؤ بالكوارث أو استخدام التنبؤات كأداة لتجنبها، إلا أنه أثار العديد من الأسئلة حول قدرة العقل البشري على فهم المستقبل. في النهاية، ربما تبقى هذه الأسئلة دون إجابة قاطعة، لكن المثير في الأمر أن العديد من الأشخاص ما زالوا يؤمنون بالقدرة على التنبؤ بالمستقبل، حتى لو لم يكن ذلك قابلاً للقياس أو التفسير من خلال الأدوات العلمية المتاحة.