حلم قطب شمالي يتحول إلى كابوس جليدي
في الحادي عشر من يوليو عام 1897، انطلقت رحلة استكشافية طموحة نحو القطب الشمالي، تحمل معها آمالا كبيرة وغرورًا بشريًا، انتهت بكارثةٍ مروّعةٍ حُجبت تفاصيلها الغامضة خلف ستار من الصمت الجليديّ لأكثر من ثلاثة عقود. ثلاثة رجال سويديون شجعان – سالومون أوغست أندريه، ونيلس ستريندبرغ، وكنوت فرانكيل – تحدوا قسوة الطبيعة في رحلة بالونٍ هوائي أطلقوا عليه اسم "النّسر"، محاولين تحقيق حلمٍ مستحيل، رحلة قطب شمالي عبر سماءٍ جليدية.
لم يكن هؤلاء الرجال مجرد مستكشفين، بل كانوا يحملون في قلوبهم حلمًا يراود الإنسانية منذ أزل: غزو القطب الشمالي، رحلة حلم مستحيل. إلاّ أن هذه المغامرة، التي بدأت بنبضات قلبٍ مليئة بالأمل، انتهت بمأساةٍ عميقة، موت قطب شمالي هزّ العالم وأثارت أسئلةً عميقة حول حدود الشجاعة البشرية وخطورة التحديات الجريئة. رحلة بالون موت ، حقيقة مؤلمة تتجسد في موت حلم مستحيل، في القطب المستحيل موت، و حلم الموت بالون.
بالون حلم مستحيل يواجه رياح التحدي
كان سالومون أوغست أندريه، مهندسًا سويديًا يعمل في مكتب براءات الاختراع، يمتلك شغفًا ملحوظًا بالبالونات الهوائية واستكشاف المناطق القطبية. اكتسب أندريه خبرة في الطيران بالبالونات خلال مشاركته في معرض فيلادلفيا العالمي عام 1876، وهو ما أشعل بداخله الشغف بهذه الوسيلة للاطلاع على العالم. في عام 1893، اشترى بالونه الخاص، ليبدأ بقيام عدة رحلات عبر بحر البلطيق مستغلًا قوة الرياح السائدة. هذه التجارب زودته بثقة بالنفس وبالمهارة اللازمة.
ومع ازدياد خبرته، تطوّرت طموحات أندريه. في عام 1894، التقى أدولف إريك نوردينشولد، وهو مستكشف قطبي سويدي بارز نجح في عبور المد الشمالي الشرقي عام 1878، واقترح عليه استخدام بالون مرتبط للارتفاع فوق الجليد والاطلاع على المحيط الذي تحيطه. لكنّ أندريه الذي كان يتوق دائمًا لتحدياتٍ أكبر، رأى أنّ الطيران الحرّ للبالون سيمنحه فرصة أكبر لاكتشاف ما وراء الغلاف الجليدي.
في عام 1895، وقف أندريه شجاعاً أمام الجمعية الجغرافية الملكية، وعرض خطةً طموحة لتحقيق حلمه في عبور القطب الشمالي عن طريق البالون. بدأ شرحه بالقول إنّ جميع محاولات عبور الجليد القطبي باستخدام السفن باءت بالفشل الذريع ، حيث انتهى أمر الكثير من السفن بالحصار و التلاشي في جليد البحار. وأشار إلى ضرورة التخلي عن هذه الوسيلة وتبني أخرى مبتكرة و طموحة، مضيفاً "أقترح لكم، استخدام البالون".
قدّم أندريه خطة مُفصّلة تعتمد على السيطرة على اتجاه البالون باستخدام شراعٍ متصل بالبالون و حبال سحب ثقيلة لإبطاء سرعته و التحكم به عند احتكاكها بالماء أو الجليد. أما بشأن المدّة الزمنية للرحلة و مشكلة إبقاء البالون منفوخًا خلال الرحلة، أشار إلى أنّ ضوء شمس منتصف الصيف في القطب الشمالي سيمكّنهم من الطيران على مدار 24 ساعة.
لم تخلو خطته من موجات الشك والقلق من قبل بعض الخبراء . فقد قام الجنرال أدولفوس جريلي، الذي كان عائدًا من رحلة استكشافية في شمال غرب غرينلاند، بالتساؤل عن سلامة فكرة أندريه لرحلة قطب شمالي. فرد عليه أندريه مُحاوراً إياه و قائلاً بأنه خسَر 18 شخصاً من أصل 25 في رحلته بينما خطّط أندريه لمخاطرة بثلاث أرواح فقط للوصول الى القطب الشمالي مضيفاً ساخراً : "أنا أخاطر بثلاث أرواح في ما تُسميه "محاولة حمقاء"، وأنت خَطّرت بكم من حياة؟ طاقم سفينة!". أعجب الجمهور بهذه الردود الجريئة واستقبَلَ خطته بإعجاب و تصفيق حارّ.
رحلة حلم مستحيل يتحول إلى موت قطب شمالي
بعد فترة تحضير دقيقة امتدت لسنوات من التجارب والتخطيط والدراسات انطلقت رحلة أندريه أخيراً. في عام 1896، حاول لأول مرة الوصول إلى سفالبارد بالونٍ أطلق عليه "أورن" (النّسر). لكن الرياح الجنوبية الضرورية للحركة جنوباً لم تكن مُواتية، بل هبت رياح قوية من الشمال أرغمتهم على العودة. فواجه أندريه انتقادات لاذعة ووصفوه بالـ"دجال" في بعض الأوساط.
لكن إصراره على تحقيق حلمه لم ينقطع. في العام التالي 1897، عاد أندريه مع رفيقيه – ستريندبرغ، مصوّرٌ وعالم شاب يافع، وفنركيل مهندس طموح شاب - مدعوماً بتمويل من المخترع السويدي ألفريد نوبل. في الحادي عشر من يوليو، أرسل برقياتٍ إلى ملك السويد وصحيفة أفتونبلادت، مُعلنًا عن انطلاقة رحلته التاريخية، رحلة بالون قطب شمالي نحو القطب. وقدّ كانت هذه البداية المُشجّعة بمثابة مقدّمة مؤلمة لما ستحمله الأيام المقبلة من أحداث مأساوية.
بدأ كل شيء بشكل جيد على مايُبدو. فقد ارتفع البالون، لكن الحبال الثقيلة التي استُخدمت لسحب البالون حوّلت انطلاقته إلى صراعٍ مرهقٍ مع الرياح والماء. غاصت سلة البالون في المياه في بداية الرحلة، مُرغماً أندريه ورفاقه على التخلص من حمولتهم بسرعةٍ لتعويم البالون من جديد. ارتفع "النّسر" بعد ذلك عالياً بشكل مفاجئ، مُبتعداً عن المسار المخطط له وليُسجّل لنفسه رقماً قياسياً لرحلة بالون فوق القطب الشمالي . وبعد عشر ساعات فقط من الطيران الحرّ ، انقلبت المغامرة، ليُخوض الرجال معركة يائسة للبقاء على قيد الحياة.
لمدة أربعين ساعة ، استمر البالون يُرتفع ويَنخفض ويرتطم بالجليد، حتى سقطَ أخيراً على سطح الجليد، مُنهكًا بفعل الرطوبة والثقل. هكذا تحوّلت رحلة حلم مستحيل إلى واقع مرعبٍ.
رحلة العودة المأساوية
لم ييأس الرجال، بعد سقوط البالون واجهو صعوباتٍ جمة في رحلتهم المأساوية التي تُعتبر من أفظع مآسي الرحلات الاستكشافية في التاريخ . حمل الرجال لوازمهم على الزلاجات، مُتجهين شرقاً نحو مستودع تموين على أرخبيل فرانتز جوزيف لاند، لكن انحراف الجليد دفع الزلاجات باتجاه الغرب عكس المسار، مُشكّلاً عائقاً خطيراً أمام الطريق. لم يكن لباسهم كافياً لتحمّل البرد القارس، و زلاجتهم كانت ثقيلة. اضطر الرجال للتخلي عن جزء كبير من أمتعتهم ومؤنهم للتخفيف من الأوزان. وللبقاء على قيد الحياة بدأ الرجال يصطادون الدببة القطبية والحيوانات البحرية للتغذية.
ثم قرّروا التوجه نحو الجنوب الغربي باحثين عن الأمان. لكنّ طريقهم كان شاقاً ومليئاً بالعقبات. كانوا يضطرون للحبو على أيديهم وأرجلهم لتجاوز شقوق الجليد و المطبات الخطرة. واخيراً استقر أندريه و رفاقه على قطعة من الجليد المسطح التي بدأت تنجرف نحو جزيرة كفيتويا.
موت حلم مستحيل يحوّل الحزن إلى رمزٍ وطني
وصلوا إلى اليابسة في الثالث من أكتوبر. لكن الانتصار القصير الأمد لم يُدم طويلًا، فبعد أيام قليلة ماتوا جميعاً مُنهكين من الجوع والبرد والعناء. تُشير الأدلة إلى أنّ فرانكيل مات أولًا، ثم ستريندبرغ. أما أندريه فقد كتب آخر مذكّراته في السابع من أكتوبر، قبل أن يحلّت به الوفاة. عُثر عليه جالسًا بجانب صخر، مذكّراته وبندقيته بجواره.
بعد ثلاثة وثلاثين عامًا، أي عام 1930، عثر صيادو فظّات نرويجيون على بقايا الرجال على جزيرة كفيتويا، مع مذكّراتهم وصور ستريندبرغ. كانت هذه الصور والنصوص القديمة بمثابة شاهد على معاناة الرجال وقوة إرادتهم في وجه الموت. تمّ إعادة جثث الرجال إلى السيّد وأقيمت لهم جنازةٌ حافلة وحزينة شهدها الجميع وأُعتبرت واحدة من أبرز مظاهر الحزن والحزن الوطني التي شهدتها السويد على الإطلاق. أما الموقع الذي مات فيه الرجال، فُعرف باسم "أندريينيسيت" (موقِع أندريه) حيث وُضِع نصبٌ تذكاري بسيط يُخلد ذكرى الرحلة و مآلاتها.
إن رحلة أندريه ورفاقه، تلك "رحلة بالون موت"، تبقى درساً قيّماً في التاريخ البشريّ، تُحذّرنا من مغبة التهور المفرط، وتعكس المشاعر المختلطة بين الإعجاب بجرأة أندريه وحزنه الشديد على مصيره المرير. وبغض النظر عن نتيجة رحلته فإن إصراره على الوصول إلى هدفه هو دافع أساسي ملهم.