أن تسقط سقوط حر بلا مظلة من طائرة مرتفعة الآلاف الأقدام عن الأرض ثم تعيش في النهاية بكل بساطة هو المحال بعينه .. شيء لن تراه إلا في أفلام الخيال
لكن قصة اليوم ليست سيناريو خيالي بل هي قصة حقيقية لفتاة مراهقة تدعى جولين سقطت عام ١٩٧١ من طائرة مرتفعة عن الأرض ٣٠٠٠ قدم بدون مظلة ونجت من الموت!
جولين .. الفتاة التي سقطت من السماء
من هي جولين كوبيك؟
جولين فتاة ألمانية ولدت سنة ١٩٥٤ وهي الإبنة الوحيدة لعالمي حيوان يعملان في متحف التاريخ الطبيعي بمدينة ليما عاصمة البيرو، عندما بلغت الرابعة عشر إنتقلت مع والديها للغابات المطيرة لفترة من الزمن لإنشاء مراكز أبحاث إسمها بانغوانا وبحكم إقامتها في هكذا مكان بدأ والدها يعلمها تقنيات البقاء على قيد الحياة والكثير من المعلومات عن الحيوانات و الحياة في الغابة المطيرة حتى لقبت بفتاة الأدغال.
الادارة التعليمية لم يعجبهم وضع جولين التعليمي فأرغمو والديها على إعادتها لمدينة ليما كي تكمل إمتحاناتها الدراسية، وبالفعل عادت مع والدتها و أكملت جولين الامتحانات بنجاح ثم تخرجت من مدرستها الثانوية في ديسمبر عام 1971 في عمر السابعة عشر
..
بدأت بعدها والدتها تحزم حقائبهم للعودة لبوكالبا مكان إقامة والدها في تاريخ ١٩ – ٢٠ ديسمبر للإحتفال بعيد الميلاد لكن جولين طلبت تأجيل السفر لأنها كانت تريد حضور حفل تخرجها في المدرسة.
وافقت والدتها ماريا وحجزت رحلة في عشية عيد الميلاد ، في وقت كانت فيه كل الرحلات محجوزة إضطرت الأم أن تحجز تذكرتين في طائرة تسيرها شركة LANSA البيروفية ، حذرها زوجها هانز من الذهاب على متن طائرات هذه الشركة لأنها سيئة السمعة لكن ماريا لم تستمع وكان هذا أكبر خطأ إرتكبته في حياتها..
رحلة الطائرة المنكوبة
بعد أيام جاء موعد الرحلة المنتتظرة في تاريخ ٢٤ ديسمبر وأقلعت الطائرة على متنها ٩١ راكب من ضمنهم جولين وأمها
..
كانت الرحلة ستستغرق ساعة لأنها ستنتهي في بوكالبا جنوب البلاد
لكن بعد نصف ساعة فقط من إقلاع الطائرة مرت بسحابة رعدية عنيفة ، على الرغم من أن الصواعق شائعة على طائرات الركاب وعادة ما تكون غير ضارة ، إلا أنها أصابت الطائرة وحطمت جناحها الأيمن كما تسببت في اشتعال النيران في المحرك .
كانت الطائرة في حالة إضطراب شديد لدرجة أن الحقائب و الصناديق والهدايا وباقي الأغراض بدأت تسقط على رؤوس الركاب و صرخاتهم تتعالى في المكان ممتزجة بضجيج المحركات الصاخب.
حينها نظرت ماريا لإبنتها و قالت لها بهدوء : ” إنتهى كل شيء”..
بعد ذلك بدأت الطائرة تتفكك و سقطت جولين منها وهي ما تزال مربوطة في مقعدها فوق الغابة المطيرة من على إرتفاع ٣٠٠٠ قدم .
بعد ساعات من هذا الحادث إستيقظت لتجد نفسها وسط الغابة، نظرت للسماء فوجدتها تمطر بشدة ، كانت لا تزال مربوطة في الكرسي فقامت بنزع الحزام وبدأت تزحف ببطء وسط الحشائش .
سقطت فوق غابات الامازون المطيرة التي تغطي مساحة شاسعة من امريكا اللاتينية
لعل ما أقوله يبدو غبياً قليلاً..هل سقطت من هذا الإرتفاع الشاهق ثم إستيقظت ؟!
حاول الكثير تفسير سبب نجاتها العجيبة وتكهن البعض إلى كون الكرسي الذي كانت مربوطة به بالإضافة للأوراق شجيرات الغابة الكثيفة التي إرتطمت بها خففو قليلاً من حدة سقطتها وتقول نظرية أخرى أن العاصفة الجوية خلقت تياراً هوائياً ربما ساهم في تخفيف سقوطها لكن لا شيء مؤكد، لا أحد يعلم كيف بقيت حية حتى هي ذاتها لا تعلم !.
ولكي نكون واقعيين وأكثر دقة فإن جولين لم تسقط من إرتفاع عالي كهذا ثم إستيقظت لتتحرك بعدها ببساطة بل كانت في حالة يرثى لها .. إحدى عظامها – الترقوة – كُسرت و عانت من إرتجاج في الجمجمة كما كانت يديها اليمنى مصابة وواحدة من عينيها متورمة بشدة نتيجة ضغط الهواء أثناء السقوط فإنفجرت الشعيرات الدموية فيها وكانت ترتدي فستان بلا أكمام وفقدت نظارتها فلم تكن ترى بوضوح شديد وفردة من حذائها مفقودة.
داخل الغابة
كانت تعاني أيضاً من الحر الشديد والرطوبة في النهار
كانت في حالة إعياء عندما إستيقظت وقد إستغرقها الأمر نصف يوم لكي تستطيع الوقوف على أقدامها دون أن تصاب بالدوار ولكنها في النهاية تمكنت من ذلك.
كانت هناك وحيدة تقف و تنظر حولها، لا حطام طائرة لا جثث لا ناجيين
فبدأت حينها بالمشي وهي تبحث عن والدتها، كان لديها أمل بأنها نجت أيضاً وهي في مكان ما قريبة منها، ظلت تبحث وتصرخ بإسمها بقدر إستطاعتها ليوم كامل دون جدوى، بعد محاولتها اليائسة قررت أن تكمل طريقها وأن تبحث عن المساعدة أو أي ناجيين أخريين.
تارة تصرخ وتارة تنادي بصوت عالي عل أحداً يسمعها لكن عبثاً، كانت عملية بحثها صعبة للغاية..
كما نعلم فإن الغابات المطيرة هي موطن الثعابين وبدون نظارتها كانت تمشي بحذر شديد وكل بضع خطوات ترمي حذائها على الأرض لتخويف أي ثعابين بين الشجيرات مما جعل حركتها بطيئة و شاقة، ومما ساهم أيضاً في بطء حركتها أنها كانت تقع مغشياً عليها مرات عديدة من التعب.
كانت تعاني أيضاً من الحر الشديد والرطوبة في النهار و في الليل البرد القارس والأمطار الغزيرة ، كما جُرحت في مناطق من جسدها ودخلت الكثير من اليرقات الصغيرة و الديدان في يدها اليمنى المصابة وكانت تحاول التوغل داخل لحمها.
في اليوم الرابع لها في الغابة سمعت صوت تعرفت عليه وهو صوت طائر يسمى بملك النسور ، طائر مفترس يهبط عندما يشتم رائحة الجيفة في الجوار لكي يتغذى عليها فراحت تتبع ذلك الطائر حتى شاهدت منظر مروع للغاية..
جثث ٣ ركاب مربوطين بمقاعدهم ومن شدة إرتطامهم بالأرض كانو مغروسين على عمق ثلاثة أقدام وأقدامهم فقط بارزة.
كيف بقيت جولين حية دون طعام أو شراب؟
كان من بين الجثث إمرأة فخافت جولين للغاية أن تكون هذه أمها لكن كانت هذه السيدة تضع طلاء أظافر فإطمأنت بأنها ليست هي فأمها لا تضع الطلاء.
خلال كل هذه الأحداث على الجانب الأخر في البيرو إنتشر خبر تحطم الطائرة في وسائل الإعلام ومن هنا بدأت عملية بحث كبيرة بواسطة الطائرات عن أي ناجيين فوق الغابة ، لكن للأسف لم يرى أحدهم جولين بسبب كثافة الأشجار ولم تكن هناك فرق دخلت الغابة وبحثت فيها .
ظلت جولين تسمع أصوات الطائرات لأيام قليلة ثم إختفت الأصوات وهنا أدركت أنهم لم يعودوا يبحثون عن الناجيين وقد شعرت بالغضب بأنهم تركوا البحث بهذه البساطة.
ربما ستسأل أيها القارئ .. كيف بقيت جولين حية دون طعام أو شراب؟
أثناء بحثها عن والدتها وجدت حقيبة ملقاة عند إحدى الحشائش بها قطع من الحلوى وكان هذا هو غذائها الوحيد.
ولم تجد مصادر مياه فكانت عندما تشعر بالعطش تلعق قطرات الماء على أوراق الشجر في طريقها.
للأسف مع الوقت نفذت الحلوى التي معها وشعرت بالجوع الشديد لأيام ، ولم تستطع تسلق الأشجار وإحضار الثمار من الأعلى كما لم تستطع الأكل من النباتات حولها لأن أكثرها كانت سامة ، بدأت جدياً تفكر بأكل الضفادع التي على الأوراق وقد حاولت إصطياد بعض منها لكنها كانت ضعيفة، ومن حسن حظها أنها لم تأكلها لأنها كانت سامة.
النجاة من الجحيم
إذا ضللتي في الأدغال فإتبعي مجرى النهر
ظلت جولين تصارع من أجل البقاء على قيد الحياة بواسطة خبرتها في البرية التي علمها إياها والدها عندما كانت صغيرة
في يومها العاشر في الغابة وجدت نهر، فرحت للغاية وقد تذكرت نصيحة والدها : ” إذا ضللتي في الأدغال فإتبعي مجرى النهر وستجدين حضارة في النهاية”..
ظلت تتبع النهر وفي طريقها كانت ترى بعض التماسيح على ضفافه لكنها لم تهتم لأن التماسيح لا تميل عادة لمهاجمة البشر
وأخيراً بعدة مدة عثرت على قارب.. في البداية لم تصدق عينيها وظنت أنها تهلوس وأنها فقدت عقلها فنزلت للماء وإتجهت للقارب لتتأكد وكان حقيقي ، كما وجدت كوخ قريب منها فدخلته وقد كان فارغ جل ما يحتويه علبة بنزين فقط ، كانت يدها تؤلمها بشدة بسبب اليرقات التي ظلت تتوغل داخل لحمها و تذكرت ذات مرة أن والدها قام بسكب البنزين على جراح كلب لعلاجه فقامت بنفس الشيء للتخلص من هذه اليرقات ثم إستلقت مكانها وبدأت تبكي على فراق والديها.
بعدها عادت للقارب ومن شدة التعب نامت ليلتها هناك ..
عندما إستيقظت وجدت ٣ رجال أمامها، ، كانو قد وصلوا في وقت سابق وهي نائمة واتضح أنهم مالكو القارب والكوخ
وقد إستغربوا وجودها وحيدة في الغابة والعجيب أنهم ظنوها روح مائية تسمى يمانيا.
نالت قصة نجاتها تغطية اعلامية واسعة
أخبرتهم بكل ما حدث معها وقد أخذها هؤلاء وأعتنو بها وفي اليوم التالي أخذو القارب إلى قرية قريبة وهناك تطوع أحد الطيارين المحليين بنقلها جواً إلى المستشفى في بوكالبا حيث التم شملها بوالدها وأخيراً.
ساعدت جولين فرق الإغاثة والبحث في تحديد موقع جثث الضحايا التي رأتهم في الغابة أما جثة والدتها فقد تم العثور عليها في الـ ١٢ من يناير عام ١٩٧٢.
إكتشفوا لاحقاً أن أمها وعدد من الناس نجوا من السقوط وكانوا تائهين في الغابة مثلها، لكن لا أحد منهم إستطاع الصمود وماتوا هناك .
بعد هذه الحادثة عانت جولين من الكثير من الكوابيس على مدار سنوات لكنها تجاوزتها
..
عانت جولين من الكثير من الكوابيس على مدار سنوات
إشتهرت قصتها حول العالم وتصدرت وسائل الإعلام لفترة ، كما استوحت العديد من شركات السينما حكايتها ، كان أبرزهم هو فيلم للمخرج الإيطالي غوسيب ماريا يحمل اسم
“المعجزات لاتزال تحدث” والذي تم إنتاجه سنة ١٩٧٤ .
جولين كوبيك اليوم
هي اليوم على قيد الحياة وهي تعيش حياة هادئة بألمانيا حيث إنتقلت هناك بعد أن صارت الناجية الوحيدة من حادثة طائرة – LANSA- التي دخلت موسوعة غينيس كونها أخطر حوادث الطائرات الناتجة عن الصواعق الرعدية.