من الطبيعي في رحلات السفر عبر الجو أن يأخذ الأمر ساعة أو ربما عدة ساعات حسب بُعد المكان المقصود، لكن من غير المنطقي أن تستغرق الرحلة أياما أو حتى أشهرا. والمستحيل بعينه أن تطول الرحلة لسنوات مثلا! لكن ماذا عن رحلة دامت مدتها لقرابة الأربعة عقود؟
قصتنا اليوم عن أشهر وأغرب رحلة في تاريخ الطيران، الرحلة 914.. فما هي حقيقتها ترى؟
لغز الرحلة 914
كان يوما عاديا روتينيا كسائر الأيام لضابط برج المراقبة خوان دي لا كورتي في مطار كاراكاس الدولي في فنزويلا.. قبل أن يلاحظ على شاشة المراقبة ظهور بقعة سوداء غريبة عليه، بعد التدقيق ظهر أنها كانت طائرة لم تظهر قبلا على الرادار تتجه نحو المطار.. لقد ظهرت من العدم دون وجود أي خط طيران لها ..
عمت الحيرة وانتشر الارتباك بين أفراد طاقم المراقبة، من أين ظهرت؟ هم لم يخطأوا بأي شيء! دقائق قليلة قبل أن يستطيعوا رؤيتها بأعينهم بعيدة في السماء .. كانت تبدو غريبة ومن طراز قديم جدا DC-4 ، من أيام الحرب العالمية الثانية!!
فجأة يصلهم اتصال كان مصدره الطائرة نفسها، كانت عبارة عن سؤال من كلمتين :
” أين نحن؟”
بدا الصوت مرتبكا وخائفا، لكن الضابط أجاب عن السؤال بسؤال:
” إلى أين تتوجه هذه الطائرة؟”
هنيهات قبل أن يأتيه الجواب الصاعق:
” نحن الرحلة 914 بان أميركا، التابعة للخطوط الجوية الأمريكية المتوجهة من نيويورك إلى ميامي في فلوريدا مع طاقم مكون من أربع أفراد وسبع وخمسين راكبا”
كان الجواب صدمة لطاقم المراقبة، فماذا تفعل طائرة أمريكية على الخطوط الجوية الفنزويلية على بعد أكثر من 1800 كلم؟
” هذه كاراكاس، فنزويلا.. بأمريكا الجنوبية، هل أنتم في مأزق ما؟”
“كاراكاس؟ كيف يمكن أن يكون هذا؟”
بعد بضع دقائق هبطت الطائرة DC-4 على أحد ممرات مطار كاراكاس الدولي، وقد سمع الضابط خوان صوت الطيار مشحونا بالعجب والرعب وهو يقول:
” يا إلهي!! جيمي! ماذا بحق الجحيم هو هذا؟صاروخ؟”
كان طيارو الرحلة 914 ينظرون إلى مجرد طائرة نفاثة حديثة تقلع على المدرج المجاور.
ثم صرخ الطيار قائلا للضابط :
“نحن الرحلة 914! يجب أن نكون في مطار ميامي الساعة 9:55 صباحًا يوم 2 يوليو من العام 1955 كيف انتهى بنا المطاف في كاراكاس؟ هناك شيء غير طبيعي هنا!
” أؤكد لك أنك في مطار كاراكاس الدولي، اليوم هو 21 مايو 1992″
” يا إلهي”
واضح أنه كان جوابا غير منتظر للطيار الذي بدا مذعورا. حاول الضابط طمأنة الطيار قائلاً له إن الطاقم الأرضي في الطريق إليهم لمساعدتهم.. ويجب على الطيارين التزام الهدوء لكن جوابه كان رادعا من خلال نافذة قمرة القيادة المفتوحة :
” لا تقترب منا!.. نحن سنطير بعيدا!”
ودون أخذ إذن أو اتباع بروتوكولات السلامة طار بالطائرة فورا وسرعان ما تلاشت عن الأنظار!
وفي وقت لاحق، أفاد عمال الخدمة الأرضية أنهم رأوا وجوه الركاب تضغط على النوافذ، وفتح الطيار نافذة قمرة القيادة ولوح لهم للابتعاد.
قال الضابط خوان دي لاكورتي أيضا أنه كان يلوح بملف على ما يبدو وقد سقط منه، والذي اكتشفوا لاحقًا أنه عبارة عن تقويم. ثم بدأ الطيار تشغيل المحركات وأقلعت الطائرة.
كما أضاف بأن قادة الطيران المدني حجزوا جميع سجلات المحادثات مع الطائرة، وكذلك التقويم الذي سقط من يد الربان، والذي كان يعود لسنة 1955!!
بداية الرحلة
في الثاني من يوليو لعام 1955، انطلقت الرحلة 914 الداخلية التابعة لشركة الطيران الأمريكية بان أميركا من ولاية نيويورك إلى ولاية ميامي.. وعلى متنها 57 راكبا إضافة لطاقم الطيران المكون من 4 أفراد.
بدأت الرحلة بشكل عادي دون أدنى مشكلة، وثلاث ساعات طيران كانت كفيلة بإنهائها، لكن الساعات مرت تتلوها أخرى ولم تظهر الطائرة لا في السماء ولا على رادارات المراقبة.. ولم تُرسل أي رسالة استغاثة أو إبلاغ عن مشاكل تقنية حتى. الأمر الذي أثار التوتر لدى المراقبين في ميامي فتم الاتصال بمراقبي الملاحة الجوية في نيويورك ليردوا بأن الطائرة اختفت من الرادارات ولا أثر لها ..
أثار المسؤولون حالة استنفار قصوى للبحث عن الطائرة أو حتى حطامها ومحاولة رصد أي إشارة منها .. لكن دون جدوى، أشهر من البحث لم تسفر عن أي شيء.. لقد تبخرت طائرة الرحلة 914 وكأنها لم توجد قط !.. مما دعا السلطات للجزم بتفسير واحد لما حدث وهو أنها سقطت في مكان ناء في المحيط لم تستطع فرق البحث الوصول إليه.
مأساة أودت بثمان وخمسين شخصا جهلت أسبابها وتفاصيلها.. واعتمد تحليل مجرياتها على مجرد تخمينات واعتقادات المسؤولين الذين لم يتصوروا في أكثر تفسيراتهم جنوحا وجموحا أن طائرة الرحلة 914 لم تصل لوجهتها في فلوريدا لأنها لاتزال تطير على خط الرحلة!!
بعدها .. كما ذكرنا آنفا ظهرت الرحلة من العدم لتحط في مطار كاراكاس بفنزويلا بضعة دقائق قبل أن تطير و تختفي مجددا ..
لكن إلى أين؟
عجائب الرحلة 914 لا تنتهي..
إلى ميامي في فلوريدا حطت الرحلة 914 أخيرا بعد سبع وثلاثين عاما من التحليق جوا..
أفواه فاغرة، وعيون متسعة، وعقول لا تكاد تستوعب ما ترى.. تلك هي حال المسؤولين والعاملين في مطار ميامي الذي لم يصدقوا ما رأوه بأم أعينهم، قرابة الستين شخصا اختفوا على متن طائرة لعقود ليظهروا بعدها ببساطة.. والأدهى ليس ذلك، بل كونهم لازالوا بنفس العمر وعلى نفس الحال دون أي تقدم واضح في السن!!
ومع ذلك الذهول لم يجدوا بديلا عن التحقيق مع الجميع من طاقم وركاب الذين أجمعوا أن لا علم لهم سوى بأنهم كانوا على متن رحلة طيران في العام 1955. بعدها تم إرسال الجميع لمقاصدهم، والله يعلم إن كانوا وجدوها أصلا بعد تلك السنوات الطويلة من السفر!!
ودون أي أجابات رسمية من سلطات كل من أمريكا وفنزويلا، تبقى التساؤلات المطروحة كثيرة، خاصة مع انتشار قصة الرحلة 914 مع مرور السنين والانفتاح الرقمي يسر لها ذلك.
فهل قصة الرحلة 914 حقيقية؟ وما سرها؟
وما هو التفسير المنطقي لطيران طائرة لسبع وثلاثين سنة ظنها ركابها ثلاث ساعات لا أكثر؟
النظريات
الكثيرون حاولوا حل لغز الرحلة 914، وانتشرت فرضيات عديدة ومتنوعة عنها تجاوزت الخيال ذاته.. ولعل أشهرها وأبرزها كان نظرية السفر عبر الزمن عبر ثقب دودي أو ربما نفق زمني دخلته الطائرة لتجد نفسها في فنزويلا فجأة بعد سبع وثلاثين عاما من تاريخ إقلاعها وذلك سبب عدم التقاط الرادار لها .. ثم عودتها من ذات الثقب لتجد نفسها في ميامي بذات الزمن.
هل سافرت طائرة الرحلة 914 عبر الزمن؟
وبالطبع .. لكل نظرية معارضون، وأحد أهم أسباب الاعتراض هنا هو أنه لو كانت حقا سافرت عبر الزمن وهو الأمر غير المؤكد وجوده أصلا، لكانت لدى عودتها من فنزويلا لوصلت لميامي بالعام 1955 وليس 1992.
النظرية الثانية أبطالها هم الفضائيون هذه المرة، فكما العادة، فالكثيرون يزجونهم بالوسط أثناء تفسير أي حوادث غريبة ولامنطقية.. ووفقا لأصحاب هذه النظرية فالفضائيون هم الذين اختطفوا الطائرة وركابها لسنين طويلة ثم أعادوهم من جديد .
مثلث برمودا أيضا كان له نصيب من كعكة النظريات، لكن المختلف أن الطائرة لم تتحطم هذه المرة وتختفي بل تعرضت لأشياء غير مفهومة جعلتها عالقة به لعقود.
هذه النظريات وأخرى أيضا كالمؤامرات الحكومية والتجارب العلمية طفت على السطح، لكن أيا منها لم يلقى تجاوبا وتأييدا وإجماعا لعدم منطقيتها من جهة ووجود ما يفندها من جهة أخرى. واستمرت التحقيقات والتفسيرات والتأويلات لفك لغز أرهق العديدين وشغل بالهم فترة طويلة. ليظهر الحل الذي -ربما- كان منطقيا أخيرا..
فن الصحافة الصفراء
كانت صحيفة ” ويكلي وورلد نيوز” المؤسسة عام 1979 والمطبوعة باللونين الأبيض والأسود ذات شعبية و انتشار واسع في الولايات المتحدة الأمريكية. وذلك ليس سببه عبقرية كتابها أو تفرد مواضيعها، بل لكونها ذات مقالات مثيرة وغريبة للجدل بلا مصداقية أو أدلة موثوقة تستند عليها.. و لعل أشهر تلك المقالات كان مقالا عن الرحلة 914.
فبعد المتابعة والتحقيق توصلت عدة جهات بحثية لكون هذه الصحيفة هي من اختلقت قصة الرحلة ككل، وبدايتها كانت بالعام 1985 عندما نشر مقال بقلم كاتب متواضع فيها يدعى إيدي كلونتز عن حيثيات الرحلة 914 بتفاصيلها باختلاف أن العام الذي حطت فيه الطائرة بمطار كاراكاس هو ذاته 1985.. ونفس القصة أعيد نشرها مرتين في العامين 1992 و 1999مع تغير صورة ضابط المراقبة خوان دي لا كورتي في كل مرة!
الباحثون عن حقيقة الرحلة أكدوا أن الجريدة تعيد نشر نفس القصة في كل مرة مع تغيير تاريخ وصول الطائرة إلى فنزويلا فقط.. ولا يخفى عن الجميع أن مثل هذه الصحف الشعبية كثيرا ما تختلق القصص لزيادة المبيعات.
وأما الصور المنتشرة للطائرة وللأشخاص فجميعها لا علاقة لها بالرحلة الوهمية 914 التي كانت قصة ملفقة.. غذتها خيالات وأكاذيب كاتب ما. وما عزز هذه الفرضية هو تأكيدهم أن لا بيانات عن هذه الرحلة بسجلات الطيران الأمريكي ولا سجلات حوادث الطيران في الأعوام بين 1934 و 1965.
إلى هنا قد نظن أعزائي القراء أن الحقيقة ظهرت والنفوس اطمأنت؟! لكن لا.. فالجدال حول الرحلة 914 ظل قائما ولم ينته والسبب؟ هو ذاته التقويم العام 1955 والذي لوح به طيار الرحلة وسقط من يده، ففيما يؤكد العديد وجوده ورؤيتهم له، ينفي آخرون ذلك..
قصة الرحلة 914 أعادت للأذهان قصة أخرى تشابهها.. وهي الرحلة 513 سانتياغو التي انطلقت من ألمانيا عام 1954 وحطت بهدوء في مطار في البرازيل عام 1989. وعند استكشافها تبين أن كل ركابها كانوا عبارة عن هياكل عظمية ومنهم قائد الطائرة نفسه!
وبين صد ورد ومد وجزر تبقى كل الفرضيات قائمة، ولكل فرضية مصدقون ورافضون. لكن الحقيقة الوحيدة المؤكدة أن لغز الرحلة 914 .. أطول رحلة في التاريخ لايزال غامضا، وهناك في هذا العالم من يحاول حله حد هذه اللحظة.